تتضمن الآية الكريمة: ﴿واتقوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أنّ الله شديد العقاب﴾ (سورة الأنفال: 25) خمسة عناصر تتصل بالمسؤولية والمرجعية معاً.
العنصر الأول: وهو الذي يحدّد المنطلق، مسألة الفتنة. فالفتنة في القرآن الكريم تستبطن مسألتين: مسألة الغواية والإغواء، وهي متعلقةٌ بالنوازع الفردية والتي تخرج بالفرد عن منهج الاستقامة باتجاه اتباع الغرائز والدوافع النفسية المضرّة بالنفس والغير. والمسألة الأُخرى جَماعية اجتماعية؛ عندما تتحول الفتنةُ أو تلك النازعة الفردية إلى ظاهرةٍ اجتماعيةٍ ينخرط فيها الأفرادُ أو فئةٌ معينةٌ ضمن الأمة أو الجماعة. وإذا كانت الفتنةُ بالمعنى الفردي تُقْمعُ بالأوامر الإلهية أو الضوابط التي وضعها الشرع، أو استنَّها المجتمع؛ فإنَّ الفتنة العامة (المتحولة إلى ظاهرة) تنقلُ المواجهة إلى موطنٍ آخر، هو موطنُ المسؤولية الجَماعية المتعلقة بالجماعة ودورِها ومستنداتها. وهذا الأمر هو الذي يذكُرُهُ القرآنُ الكريم في قوله تعالى: ﴿وإنه لذكرٌ لك ولقومك وسوف تُسألون﴾ (سورة الزخرف: 44). وهذا يعني أنّ هناك مستويين للمسؤولية: مستوى مواجهة النوازع والأفعال الفردية، ومستوى مواجهة الظواهر الاجتماعية الضارّة. وهذا المستوى الثاني تذكر الآيتان الكريمتان مرجعيتَهُ وهو الجماعة أو الأمة، التي تملكُ حقَّ المراجعة والرقابة في الأمور التي تمسُّ وجودَها واستقرارَها ودورَها في محيطها وفي العالَم.
والعنصر الثاني: في آية اتقاء الفتنة يتضمن التعليل للمرجعية العامة للأمة: فالفتنةُ الشاملةُ لا تُصيبُ الذين ظلموا وحسْب؛ بل تتعدَّى ذلك إلى العموم؛ ولذلك يكونُ من حقّ الجماعة وواجبها التصدي لها بالوسائل الكفيلة بالردّ والتصحيح والتسديد.
والعنصر الثالث: في آية "اتقاء الفتنة" يُعنى بتحديد الفعل والفاعل. فالمسؤوليةُ الجَماعيةُ لا تُفيدُ انتفاءَ المسؤولية الخاصة عن أولئك الذين اصطنعوا الفتنة أو خاضوا فيها. إذ تصفُهُم الآيةُ الكريمة بأنهم ما يزالون "منكم" رغم ما فعلوه أو خطّطوا له. إنهم من جهةٍ مسؤولون بالدرجة الأولى، ومن جهةٍ ثانية يُعظّمُ من جُرمهم أنهم من الجماعة ذاتها؛ وهذا أدعى للتحمُّل والتجريم؛ فهم في أفعالِهِمْ هذه إنما يرتكبون جُرماً في حقّ أنفسِهم أيضاً، وليس في حقّ أمتهم وحسْب. ذلك أنَّ الانتماء للأمة ليس شأناً هيّناً أو أمراً يمكن التغاضي عن قُدُراتِه وخياراته بسهولة. فالانتماء اختيارٌ كبيرٌ يضعُ الأفراد والفئات على حدٍ سواء في مواجهة القضية الكبرى دونما افتئاتٍ أو إعفاء: فالانتماءُ تَكليفٌ، والخروجُ عليه خروجٌ على ذاك التكليف الاختياري الكبير.
والعنصر الرابع: في آية "اتقاء الفتنة" ما جاء في ختام الآية من ذكرٍ للعقوبة الإلهية الموصوفة بالشدَّة. وإذا كان الذين يباشرون الفتنة تصيبُهُم العقوباتُ الدنيوية والأُخروية؛ فإنَّ أولئك الذين يسكتون أو يتخاذلون ينالُهُم الضررُ العامّ المترتب على الإهمال أو التخاذُل، من مثل الهوان الذي يصيبُ المجموع، والاضطراب الذي يمسُّ الشأن العامّ، وإن بدا لأول وهلةٍ أنه لا شأنَ للمجموع به. "فكلكم راعٍ، وكلكم مسؤولٌ عن رعيته"؛ كما جاء في الحديث الشريف.
والعنصر الخامس: هو مبتدأُ آية "اتقاء الفتنة" فالله -سبحانه وتعالى- يفتتح الآية بـ"واتقوا"، وهذا يعني أنّ اليقظة ينبغي أن تكون وأن تظَّل عامةً وشاملةً، وكذا الرقابة عامة وشاملة. وهذا معنى الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. كما أنَّ هذا هو معنى الاحتساب. فالقيام بالواجب العامّ يحولُ دون الإهمال والتقاعُس، كما يحولُ دون وقوع الشرّ والضرر. لكنه يحولُ قبل ذلك وبعده دون ضياع المهمة والدور. فالاتقاء معنىً ومبدأٌ إيجابي، يقتضي أن تظلَّ الأمة بحكم مسؤوليتها ورسالتها والأمانة الموضوعة في أعناق جماعاتها، كأنما هي شامةٌ في الناس، بحسب قوله صلواتُ الله وسلامُهُ عليه. ويتناولُ ذلك كلَّ الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تضعُ المسلمين في موضعهم الصحيح الذي أرادهُ الله سبحانه وتعالى لهم عندما أنعم عليهم بالإسلام: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سُبُلَنا﴾ (سورة العنكبوت: 69). مع التقوى لا فتنة، وإن كانت فستظلُّ فرديةً أو قليلة الشأن. أما إن لم نُعد للأمر عُدَّتَـهُ؛ فسيتمكن الذين ظلموا، ويصعُبُ عندها تلافي الكوارث والنقمات.
.. وفي دواوين السنَّة المطهَّرة حديثُ "السفينة" الذي يفسّر فيه رسولُ الله صلواتُ الله عليه آية "اتقاء الفتنة" بالاستشهاد في آخِره: "مَثَلُ القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينةٍ فأصابُ بعضهُم أعلاها، وأصاب بعضُهم أسفلها. فكان الذين في أسفلِها إذا استقوا من الماء مرُّوا على مَنْ فوقهم؛ فقالوا لو أنّا خرقّنا في نصيبنا خَرْقاً في نصيبنا خَرْقاً ولم نؤذِ مَنْ فوقنا: فإنْ تركوهم وما أرادوا هلكوا، وهلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوَا، ونَجوا جميعاً" ﴿واتقوا فتنةً لا تُصيبنَّ الذين ظلموا منكم خاصة، واعلموا أنَّ الله شديد العقاب﴾.
السفينةُ هنا مجازٌ لبناء الأمة المُحكَم، الذي تنتظمُ فيه الأمور، وتخضعُ لسُنَن وأعرافٍ ووسائل التعامُل والتصرف. والناسُ في المسؤولية عن هذا البناء سواء، وإن يكن لكلٍ منهم رؤساءَ ومرءوسين اختصاصٌ له أَولويةٌ فيه. فالاختصاصُ تكليف، والمسلمُ ليس مطلوبا منه ليس أن يؤدي ما كُلّف به فقط؛ بل وأن يُحسنَ فيه، فكيف إذا تجاوز ذلك كلّه باتجاه التفرد والشذوذ، أو باتجاه التجاهُل والإهمال. ومن الواضح أنّ الآية الكريمة والحديث الشريف يخشيان الشذوذ والتفرد الذي ترفعُ إليه النفس الأمّارةُ بالسوء، أكثر مما يخشيان الانتكاس وعدم الفعل والفعالية. ولذلك فالمطلوبُ في الحقيقة أمران اثنان: الفعل، والفعل المُحْكَم: ﴿وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون﴾. يرى الله –سبحانه- ورسوله عمل أمتنا وسيرتها في ضوء الوحي الذي نزل، وسنة الرسول الذي أدعى الأمانة، وبلَّغ الرسالة، والمؤمنون، أبناءُ الأمة الشاهدة هم المسؤولون عن هذا الذكر، وتلك الرسالة: مسؤولية الفعل، ومسؤولية الرقابة والتسديد، ومسؤولية التشريف والتكليف والاحتساب. وكما تكونُ المسؤوليةُ اتقاءً للفتنة والشرّ، تكونُ أيضاً رداً للشرّ ودرعاً له، ثم تكونُ قبل ذلك وبعده فعلاً سليماً وخيرّاً وصحيحاً، يضعُ الأمة وأفرادها في موضع الشهادة التي أرادها الله -سبحانه وتعالى- لهم في الخير والعدل والتقدم؛ باعتبار ذلك كلّه من مقتضيات وجود الأمة الشاهدة وسوادها، ومباشرتها لتكليفها بالرحابة والقوة والتضامن والوحدة. فالتكليف مسؤولية، والمسؤولية حقٌّ وواجب؛ لكنها أيضاً وعيٌ وقدرة ومرجعية، وإلاّ لما خاطبنا الله –سبحانه- ورسوله بذلك، ولا كان كلٌّ منا راعياً ومسؤولاً عن رعيته.