أعلنت وزارة المالية أنها بصدد إجراء تعديلات جوهرية على القانون 196 لسنة 2008 المنظم للضرائب العقارية، وذلك بزيادة القيمة العقارية المعفاة إلى مليون جنيه وزيادة القيمة الإيجارية المعفاة إلى 12 ألف جنيه. وكان مقررا عند إصدار القانون ولائحته التنفذية، أن يبدأ تطبيقه من السنة الضريبية 2010، إلا أنه بعد ثورة 25 يناير تم إيقافه، وأخيرا تقرر تطبيقه من يناير 2012.
ولعلنا نذكر ذلك الهجوم العنيف ضد هذا التطبيق الجديد للضريبة العقارية بديلا عن القانون السابق السارى منذ 1954، وربما كانت آثار هذا الهجوم هى التى دفعت الحكومة الانتقالية القائمة إلى تأجيل العمل به.
فهل كانت دوافع رفض القانون الجديدة كلها خالصة النية ولا تبغى إلا الصالح العام؟
أستطيع أن أقرر أن حملة الهجوم الرئيسية كان يقف وراءها أقلية طبقية محتكرة من الملاك العقاريين والكيانات الرأسمالية الكبيرة، والتى حاولت أن تستخدم الطبقة المتوسطة المحدودة الملكية والدخل كدروع بشرية ضد التطبيق الجديد الذى قررته الحكومة فى ذلك الحين بهدف زيادة الموارد الضريبية لتغطية عجز الموازنة العامة المستمر وكان ذلك فى سنة الأزمة المالية (2008)، أو بمحاولة إدعاء سياسة «العدالة» لأن الحصيلة الكبيرة سوف يدفعها الأغنياء.
نحن الآن بحاجة إلى تنمية الموارد الحقيقة، وعلى رأسها الضرائب، بدلا من الاقتراض والفوائد، لمواجهة احتياجاتنا الاجتماعية والمجتمعية، لصالح الأغلبية العاملة والفقيرة، ولذلك تأتى «الضريبة العقارية «كأداة واجبة التطبيق الآن وليس غدا كمورد مالى حقيقى، يأتى من ثمار الثروات العقارية الكبيرة التى تراكمت بغطاءات قانونية فى عمليات التخصيص والخصخصة وعمليات التقييم المشبوهة، والنهب ووضع اليد.. إلخ،
ولذلك فهى فى نفس الوقت استرداد لجزء محدود من ثروة الشعب الفقير، فى أصوله الطبيعية التى يتعين أن يكون نتاجها والدخل المتولد عنها لصالح المجتمع ككل وليس للاكتناز والتوريث للأقلية المتخمة بالثروة.
وعلى الرغم من أننا من أنصار فرض الضريبة على تداول أصول الثروة سواء العقارية أو غيرها، إلا أن الضريبة العقارية المفروضة الآن لا تمس تلك الأصول العقارية، ولكنها تفرض على دخل افتراضى قانونى وهو «القيمة الإيجارية» لها، ولذلك فإن أى دعوى تدعى انها تستهلك الأصول ورءوس الأموال تنطوى على المغالطة والمجافاة للالتزام والأخلاق والمسئولية الاجتماعية، لأنها تتغافل عمدا عن حقائق الارتفاع المهول فى قيمة العقارات الحديثة خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة على الأقل وهى التى حازتها طبقة الأقلية وتولد منها قيمة مضافة تصل إلى مئات الأضعاف بل وآلاف الأضعاف فى أحيان كثيرة، استحوذوا عليها للاستمتاع الشخصى والمضاربة! بدلا من تنمية الاقتصاد الحقيقى بالمزج بين عناصر الأصول المختلفة لتحقيق المنافع الاقتصادية لمصلحة المجتمع ككل واستخدامها كقاعدة لبناء الصناعة والإنتاج الحقيقى وعمران الأرض، وليس بتعطيلها والاكتفاء بالمكاسب الريعية لصالح العائلة فقط!.
أما الطبقة الوسطى، وغالبيتها، تحوز ملكيات عقارية صغيرة ومفتته، والقسم الأكبر منها هو السكن الخاص الذى حازوه بعد سنوات العمل والشقاء الطويلة، وبالمشاركة مع أبنائهم العاملين وفى أحيان أخرى نتيجة لميراث محدود ويقتضى العدل «إعفاء هذا السكن الخاص» مادام فى حدود وحدة عقارية واحدة، وهو مطلب مشروع ويتفق مع تاريخ فلسفة التشريعات الضريبية المصرية التى كانت دائما تحرص على رعاية الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية، وإذا كانت حدود الإعفاء القائمة أو التى سيجرى زيادتها تغطى قيمة السكن الخاص الوحيد، فان التوصل إلى تعريف له وبضوابط واضحة لإعفائه بشكل مطلق قد يكون أكثر مناسبة لهذا القطاع من المكلفين بالضريبة وللدولة لأن ذلك يحقق العدالة فى مقابل الملاك العقاريين الآخرين الذين يحوز بعضهم أكثر من وحدة سكنية ويقوم باستغلالها بالإيجار بينما فى نفس الوقت يتمتع بحد الإعفاء الرقمى الوارد بالقانون لكل وحدة بما يؤدى إلى حصوله على ميزه لا يتمتع بها المالك لوحدة واحدة.
لكن يبقى أن يكون المبدأ العام هو إعطاء الاعتبار للطبقة الوسطى المحدودة الملكية والدخل، وهى الملتزمة من ناحية أخرى بدفع القسم الأكبر من ضريبة الأجور والرواتب بالإضافة إلى العبء الكبير الذى تدفعه فى ضريبة المبيعات وأنواع أخرى من المدفوعات الحكومية، ولذا يتعين مساندتها لتنهض اجتماعيا وسياسيا فى تجاه مشروع الدولة الحديثة الديمقراطية.
دور الدولة
يزايد بعض من الناس بمقولة إن الضريبة العقارية تزيد من العبء الضريبى على المجتمع، فأى مجتمع يقصدون؟ هل هم الـ40% الفقراء الذين لا دخل لهم أصلا أم عبء الضريبة الذى تتحملة هيئات وشركات الملكية العامة (هيئة البترول/ قناة السويس والبنك المركزى/ شركات القطاع العام) بنسبة 65% من الحصيلة الضريبية، أم العاملون الذين يدفعون 15% من تلك الحصيلة؟ أم المنشآت المتوسطة والصغيرة التى تدفع 7% من تلك الحصيلة؟ فماذا يتبقى من عبء ضريبى تدفعه الكيانات الخاصة الكبرى وهو 13% من إجمالى الحصيلة، بل إن بعضا منها تساهم فيه الدولة بنسبة 100% تقريبا! إذن فمن يدفع الضرائب فى مصر؟
الدولة هى هذا الكيان المعنوى والمادى الذى نجاهد منذ ما يقرب من قرنين ليأخذ مكانه المستحق فى هذا العالم، بتحديثة وإرساء قواعد العدل والمساواة فى مجتمعها فى تجاه الارتقاء نحو «الدولة الحديثة الديمقراطية» وهى دولة «الحقوق والمسئولية الاجتماعية» وهو ما يملى عليها ألا تكون محايدة فى إدارة تلك المسئولية وإقرار تلك الحقوق بالالتزام الدائم بعدالة توزيع الدخول والأعباء عن طريق سياسة للتدخل الضريبى لصالح الطبقات الشعبية والمتوسطة.
وفى البلدان الرأسمالية تتدخل الدولة بواسطة الضرائب لإصلاح الهيكل الاجتماعى والاقتصادى، وهناك يلتزم المكلفون بالضرائب حرصا على مسئوليتهم تجاه المجتمع، ولا يناهضون الدولة ضد الضرائب!