عذرا خاننى اللفظ
أو لم يخنّى
فكلما جاء ذكر الاختراع اللوذعى المسمى بالرئيس التوافقى كلما قفز إلى ذهنى هذا النطق بدلا منه
" التلافقى "
من التلفيق
مع خالص الاعتذار لمجمع اللغة العربية لكن لعلهم يعذرونى على ابتكار مبانٍ لغوية جديدة ما دمنا فى زمن الابتكار
لكن لنتجاوز مؤقتا ابتكارى اللفظى ولنرجع للابتكار الأصلى لنتأمله ونتفحصه ونحاول أن نفهمه
التوافقى ..
الحقيقة أننى توقفت طويلا أمام هذا اللفظ وحاولت أن أقلبه من كل الوجوه وأن أراعى التجرد حال تفحصى له لعلى أقتنع به وأتوافق عليه مع من توافقوا
وللأمانة وجدته مصطلحا براقا يحمل جاذبية وأناقة
فالتوافق نظريا شىء مستحسن وأمر يتوق إليه المرء
تخيلوا معى أن يعيش الناس فى وفاق ووئام وتبات ونبات
يا له من حلم وردى جميل إذا أغلقت عينيك وحاولت تخيله
لكنك لن تلبث أن تستيقظ منه مصدوما بصخرة الواقع التى يستحيل فيه وجود هذا التوافق المزعوم
فالاختلاف أمر مقدور والله من أخبرنا بذلك " ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم "
و والله أنا شخصيا أتمنى وجود شخصية يجمع الناس عليها ولا يختلف عليها أحد
لكننا للأسف لازلنا على كوكب الأرض وقد انتهى عصر الأنبياء سلام الله عليهم وأتم بناءهم بخاتمهم صلى الله عليه وسلم
والناس أساسا لم يتوافقوا على أنبيائهم صلوات الله وسلامه عليهم جميعا
بل منهم من جحدهم وكذبهم بل وحاول قتلهم ومنهم من نجح بالفعل وقتل منهم وحتى حينما بعث الله لبعضهم ملكا وهو طالوت وأنزل معه آية ملكه كان رد أكثرهم
" أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه "
بل الحقيقة أن الناس فى الدنيا لم يتوافقوا على ربهم جل وعلا فمنهم من ألحد ومنهم من أشرك ومنهم من كفر وجحد وقليل منهم من آمن كما أخبر ربنا فى أكثر من آية " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " " وقليل من عبادى الشكور "
فكيف إذا يتصور عاقل أن يتوافقوا على رجل يقال له " الرئيس التوافقى "
سيرد متوافق حاذق ردا توافقيا بليغا ويقول: لا داعى لأن يتوافقوا جميعا لكن من الممكن أن يتوافق من بيدهم صنع القرار أو القوى المؤثرة على الرأى العام ومن ثم يتوافق الأتباع ويعيش الكل فى توافق ووئام
فأرد ردا تنافسيا بسيطا وأقول ومن نصّب هؤلاء المتوافقين أوصياء على الشعب؟
ومن أعطاهم الحق فى إنهاء التنافس الشريف الذى ارتضاه الناس بتوافقهم هذا؟
وما الآلية التى اختاروا من خلالها متوافقهم الخفى؟
ومن أدراهم أن تلك الآلية يقبلها البسطاء أمثالنا؟
البعض يظن أننا حينما نرفض فكرة المرشح التوافقى فإننا بذلك نريد الصراع أو النزاع ونحب الخلاف ونسعى إليه
وهذه تهمة فى غير محلها
ببساطة لأن التوافق بالمعنى المطروح ليس مضادا للاختلاف فالاختلاف كما بينت سنة كونية يستحيل زوالها
لكن التوافقية هنا مضادة لفكرة التنافسية وحق الاختيار ولذلك أقترح بعد هذا الاختراع التوافقى المذهل إلغاء فكرة الانتخابات من أصولها واستبدالها بالمجالس الحبية التوافقية الودية الجميلة التى يجلسها المتوافقون للتوفيق بين الشعب الذى لا يعرف مصلحته وبين حاكمه القادم وكما يقول هذا الشعب فى أمثاله وحكمه " و يا بخت من وفق راسين فى الحلال "
فلنفكر فى هذا الاقتراح جديا ولنوفر على أنفسنا وعلى خزينة بلادنا المنهكة تلكم التكاليف الباهظة التى تنفق على هذه العادة القديمة المسماة بالانتخابات التنافسية و لنوفر على المرشحين غير التوافقيين أموال الدعايا والمؤتمرات والمناظرات وعرض البرامج والرؤى التى لا داعى لها بعدما فشلوا فشلا ذريعا فى الاختبار التوافقى التلافقى العظيم
أما عن التوافقى العتيد الذى نجح بشكل يثير الدهشة فى إقناع القوى المتناحرة منذ ما يزيد عن عام بمختلف أيديولوجيتها وتوجهاتها بعسكرييها ومدنييها وبإسلامييها وعلمانييها وخارجها وداخلها ووطنييها وتغريبييها وثورييها وعباسييها أنه هو الذى يرضى طموحاتها جميعا وأنه هو وحده القادر على إيقاف خلافات تلك القوى فلا أدرى هل أهنئه أم أعزيه
فلا يمكننى أن أتصور أن هناك صاحب رأى وموقف يمكنه دوما إرضاء الناس جميعا
إن من لا يخالفه أحد قط هو فى رأيى هو واحد من ثلاثة
إما أنه متلون مخادع يحاول إرضاء الكل حتى لو خالف بذلك قناعاته واعتقاداته
وإما أنه خائف أن يجهر برأيه مهزوم نفسيا أمام مخالفه لا يملك قلبا قويا يؤهله لأن يكون مسئولا عن خياراته
وإما أنه إمعة أو سطحى لا رأى له و لا موقف, سلبى يقبع عمره فى منطقة رمادية أو منطقة لا لون لها أما صاحب الرأى والموقف و الشخصية القوية فهو يعلم علم اليقين أن ارضاء الناس غاية لا تدرك
وهو يذكر دائما أن رأيه وموقفه إن كان قد بذل وسعه ليصل إليه وإن كان يدين لله أنه الحق فهو يقوله ليرضى الله به و ليس الناس
ولذلك أخشى ما أخشاه أن أى صنف من تلك الأصناف السالف ذكرها للمتوافق عليه لا يستحق أى تهنئة بهذا التوافق المكتسب بالمداهنة والتلون أو كتمان الحق أو حتى عدم معرفته واختياره
وفى كل صنف منهم كارثة تتربص بالوطن إن صُدر مثله
فالمتلون المخادع لا يؤمن جانبه أبدا
والضعيف الخانع الذى يخشى قول رأيه وتبيين موقفه لا لا يصلح أبدا لحكم دولة مثل مصر
دولة تكتظ فيها مراكز القوى وتنتشر بؤر الفساد فى مؤسساتها التى لا تزال فلول النظام الساقط تحكمها وتطمع فيها وتتربص لنهشها والتداعى عليها قوى المشرق والمغرب
والإمعة السطحى لا يستحق أن أعلق أصلا على إمكانية حكمه لمصر فالأمر واضح بالنسبة لمآل حكم السفهاء الذى يوسد الأمر إليهم إن لم يكونوا له أهلا
أما أن يكون قويا وواضحا وصاحب رأى وموقف وفى نفس الوقت يرضى عنه الجميع؟؟!!
فصدقا والله لا يمكننى تصور وجود مثل هذا المخلوق فى مصر ولو نظريا
فمن ذا الذى يتوافق عليه الإسلاميون والعلمانيون؟
من ذا الذى يتوافق عليه الليبراليون والمحافظون؟
من ذا الذى يتوافق عليه العسكريون والمدنيون؟
من ذا الذى يتوافق عليه الثوريون والعباسيون العكاشيون؟ ( حزب آسفين يا ريس و آسفين يا مجلس )
أقول أنه إن وجد من له هذه الوجوه المتعددة التى يرضى بكل وجه منها فصيلا فلا أجد له وصفا إلا ما وصفه به حبيبى صلى الله عليه وسلم "إن شر الناس ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" متفق عليه
لذلك قد أغير البناء اللفظى الأول الذى عنونت به للمقال فأبدل اللام بنون ليصبح الرئيس التنافقى ( مع الاعتذار مرة أخرى لمجمع اللغة الذى سيضيق بى ذرعا )
فإن لم يكن ذلك نفاقا ومداهنة وتلونا فما تعريف تلك الأشياء عند إخوانى التوافقيين؟
أسأل فقط للتعلم.
وإن كان هذا الإرضاء للجميع هو فعلا ما يراه هذا التلافقى وهو ما يعتقده ويؤمن به حقا فلم إذا يتردد فى صدرى كلما تخيلت أن هذا يكون منهجا لشخص قول ربى جل وعلا " مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء "؟
يحضرنى فى هذا المقام نموذجا عجيبا ضربه أحد معارفى ممن لهم علاقة وثيقة بالأفراح الشعبية وعادات أهلها
قال " دول عايزين رئيس نوبتشى "
نموذج "نوبتجى الأفراح " أو كما ينطقونها "نوبتشى الأفراح" وهو ما يعرف أيضا عند الناس بكداب الزفة
وعندما استغربت اللفظ وسألت عنه علمت أن المقصود به الرجل الذى يقف فى الأفراح ليحيى العروسين ويجامل الحضور الذين يلقون إليه "بالنقوط "
هو رجل مهنته المجاملة وحرفته جعل الناس ينتشون بثنائه ويفخرون بمجاملاته التى تكون غالبا على قدر النقوط الذى دفعوه
وهو يتفنن فى اقناع الجميع طوال الفرح أنهم هم الأفضل و"الأجدع" وينتقى من الألفاظ ما يسرهم بذلك
فهذا " سيد المعلمين " و هذا " عم الشباب " وذاك " أجدع واحد فى الحتة " وهذا " كبير المنطقة " و" وأبو الشهامة " و " عم الجدعنة "
وهكذا يستمر فى ألفاظ المديح والإطراء حتى ينتهى الفرح وقد أرضى الجميع وجاملهم رغم أنهم يعلمون جيدا أن أكثر من ثلاثة أرباع كلامه غير حقيقى وأنه لا يعنى من جله حرفا وأن غرضه الأساسى هو إرضائهم
فهل مثل هذا النموذج هو ما يريده إخواننا المتوافقون
هل تستحق منا مصرنا رئيسا "نوبتجيا" أو " كداب زفة "؟
أم رئيسا تلافقيا؟؟
أم رئيسا تنافقيا؟؟
إن كل عاقل يدرك أن إرضاء الناس غاية لا تدرك ولذا كان العهد فى أى عملية انتخابية طبيعية أن يكون هناك رابحين و خاسرين وأن الخاسر يقف حينئذ فى موقف المعارضة والفائز يكون هو صاحب السلطة
لكن ألا يكون هناك فائز ولا خاسر ويخرج الجميع متوافقين؟؟
هذه جديدة علىّ!!!
ولا يضربن أحدكم مثالا بتونس أرجوكم
فالمرزوقى مختلف تماما سواءا من حيث آلية الاختيار أو التوصيف الوظيفى
المرزوقى من حيث التوصيف رئيس مؤقت لحين كتابة الدستور الجديد فهل رئيس مصر القادم مؤقت أم سيتم دورته التى هى الأهم والأخطر فى تاريخ مصر الحديث؟؟
والمرزوقى لم يأت بانتخاب شعبى وإنما من خلال المجلس المنتخب وهى آلية مختلفة تماما عن الموجودة فى مصر وقد تقبل عندهم بسبب التوصيف الذى ذكرته من أن الرئيس مؤقت فمررها الشعب
أما فى مصر فقد يصلح هذا الكلام من البداية بخارطة طريق مختلفة وشبيهة بخارطة تونس
من دون ذلك فالتشبيه الآن يعود بنا إلى الاقتراح الذى ذكرته فى أول المقال مازحا حول الاكتفاء بالمجالس الحبية لاختيار الرئيس ولنوفر مصاريف الانتخابات الصورية التوافقية القادمة
وحتى مع ذلك هل ظل المرزوقى توافقيا ؟؟؟
إن ما نراه ونسمعه يشى بتغير تدريجى فى النبرة التوافقية التى يبدو أنها تخفت بمرور الوقت وكلما ازداد الارتياح على الكرسى.
المرزوقى وهو لم يتمكن بعد تمكنا كاملا يعلن تدخله فى الدستور رغم أنه ليس من حقه ويصرح بأنه لن يقبل بمادة عن الشريعة الإسلامية وقبلها يتهم الدعاة إلى الله أنهم جراثيم لن يسمح بنموهم فى تونس والله الأعلم بما سنسمع منه بعد ذلك.
ولقد تكررت فى التاريخ مثل هذه المواقف ولا داعى لأن أكرر ما كفانى إخوانى الكتاب فى الأيام السابقة مؤنته من ذكر لتفاصيل انقلاب التوافقى عز الدين أيبك والتوافقى محمد على باشا على من توافقوا عليه خلعه لشيخ الأزهر وتشريده للسيد عمر مكرم وكذلك انقلاب التوافقى جمال عبد الناصر ( و هو بالمناسبة له صورة توافقية شهيرة بينما هو يخطب و خلفه راية عليها سيفان و مصحف و بينهما قول الله " و أعدوا" ) وغيرهم من التوافقيين الذين تحولوا إلى انقلابيين بعد ذلك
التوافق المطلوب فى رأيى هو توافق كل القوى على مبدأ احترام التنافسية ونتائجها ما دامت القوى قبلت خوضها
التوافق فى رأيى هو توافق كل القوى من الآن على أن الفائز والخاسر يتعاونان بعد النتيجة للنهوض بالوطن كل فى مجاله فالأول من خلال آليات سلطاته والثانى من خلال مراقبته ونصحه ومحاسبته من موقع المعارضة المحترمة وليست المخوِّنة والمجرٍّحة
لكن حياة سياسية خاوية من المعارضة والكل فيها فى وفاق؟؟
أظن أن ذلك مما يمكن تحقيقه
لكن فقط
فى يوتوبيا التى ما غادرت يوما خيال الفلاسفة
و مرحبا بإخوانى التوافقيين على كوكب الأرض