بلال فضل يكتب: رسالة من الجندي المجهول!
Thu, 6-10-2011 - 11:57Thu, 2011-10-06 11:55
بلال فضل
القادة رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. تحية طيبة، وبعد:
أتقدم لكم أنا الجندى المجهول بخالص التحية وصادق الرجاء أن لا يأتى
أحد منكم لزيارة ضريحى فى هذا اليوم العظيم كما جرت العادة كل سنة، فأنا
اليوم لن أكون هناك، نعم، لقد قررت اليوم أن أغادر هذا الضريح الذى
أسكنونى فيه منذ سنوات بعيدة ليزورنى فيه اللصوص والسماسرة والأفاقون
والمتاجرون بالأوطان ومصاصو دماء الشعوب، يقف كل منهم على ضريحى بضع دقائق
يتمتم فيها بآيات لا تجاوز حنجرته وهو يحرص على أن يكسو وجهه بتعبيرات
«متحازنة» تلائم همة المصورين المصاحبين له، ثم بعدها يصافح معاونيه فى
نهب البلاد والعباد، دون أن يقف أحدهم ولو للحظة ليسأل عن معنى وجودى فى
هذا الضريح، وعما فعلوه ببلادى طيلة العام الذى مضى منذ آخر زيارة أقضُّوا
فيها مضجعى، هذا ليس مهما بالنسبة إليهم، المهم أن يظهر للناس أنهم
يقدرون تضحيات الجنود ويقدسون دماء الشهداء، وما إلى ذلك من الكلام
الإنشائى الذى يقولونه للكاميرات على مشارف ضريحى قبل أن يتركونى ليعودوا
من جديد إلى بلد يستبدون به وشعب يفعلون به الفحشاء وتاريخ يهينونه وحاضر
يعربدون فيه ومستقبل جعلوه وقفا لذريتهم من بعدهم، وأظل أنا كما أنا،
مجهولا متجاهلا منتهَك الحقوق ضائع الأحلام مسروق الانتصارات، أسأل نفسى
لماذا لم تذُق بلادى ثمار ما حاربت من أجله، وهل ضحيت بحياتى ليُكتب لهذه
البلاد أن تنتقل من موت إلى موت…
لم أعد أذكر كم حربا خضتها، ولا أريد أن أتذكر فأقلّب المواجع على
نفسى، لست نادما على كل الحروب التى قاتلت فيها، لو عاد بى الزمن لقاتلت
ثانية بنفس الشجاعة والبسالة، لكننى كنت سأبدأ بعدو آخر غير الذى حاربته،
كنت سأبدأ بالعدو الذى يستهين بدمى ولا يقدره حق قدره، كنت سأبدأ بالعدو
الذى يحول أشلائى إلى سلم يصعد به إلى كرسى الحكم، كنت سأفكر ألف مرة قبل
أن أفرح بنصر انتزعته من فم العدو، لأستمر فى محاربة من سيسرق هذا النصر
من أولادى ليحوله إلى أصفار كثيرة ترقد فى بنوك البلاد الغريبة بينما
يظل أولادى يصارعون الفاقة والمهانة وكسرة النفس.
لم أعد أذكر كم نصرا سُرِق منى حتى اليوم، كم قطرة دم سالت منى لتصبح
مدادا تُكتب به شهادات التكريم للجنرالات المتخمين بالنياشين والأوسمة، كم
حلما تحقق لبلادى من بين كل تلك الأحلام التى تقاسمتها مع رفاق سلاحى فى
ليالى الجبهة الموحشة ونحن نتأرجح بين الخوف والرجاء! إلى أى مدارس ذهب
أولادى؟ وفى أى مستشفيات عولج أبى ورقدت أمى؟ هل نال أهلى وناسى الكرامة
التى حاربت من أجلها؟ هل ارتفعت رؤوسهم عالية إلى السماء أم خفضها الفقر
والقهر إلى سابع أرض؟ وما الذى جرى للأرض التى رويتها بدمائى؟ من باعها
ومن اشتراها ومن نال خيرها فى نهاية المطاف؟
أسئلة كثيرة أثقلت صدرى وأقلقت راحتى، فقررت أن لا أبقى هنا أبدا بعد
اليوم، حلفت بدمى أن أخرج إلى كل ميادين التحرير فى طول مصر وعرضها، لأبحث
عن أبنائى وبناتى الذين قرروا فى الخامس والعشرين من يناير أن يستردوا
بأيديهم العارية كل نصر سرقه منهم الطغاة، سأجلس معهم على أسفلت الميادين
التى كانوا يجلسون فيها دون أن يهابوا الموت، سأحكى لهم عن كل تضحية
عشتها أنا وكل رفاق سلاحى ولم يسجلها المؤرخون الذين لم يكتبوا إلا عن
بطولات القادة، سأحكى لهم عن الأرواح التى ضحى بها أبناء الفلاحين
والعمال والأفندية لكى يصنعوا وطنا كبيرا بحجم تضحياتهم وأحلامهم، سأحكى
لهم كثيرا عن ذكرياتى مع أحمد عرابى ومحمود سامى البارودى وعزيز المصرى
وأحمد عبد العزيز ويوسف صديق وعبد المنعم رياض ومحمد فوزى والجمسى وسعد
الدين الشاذلى وكل القادة الذين يعلمون أن بطولاتهم لم تصنعها إلا تضحيات
جنود مثلى اختاروا أن يكونوا مجهولين لكى تبقى حاضرة فى وجدان مصر سيرة
عطرة لقادة لم يحلموا بكرسى ولا نفوذ ولا مجد ولا مال، بل حلموا بمصر
وماتوا من أجلها على أمل أن يحيا لها يوما ما قادة ينحنون تواضعا أمام
الشعب المصرى ويضحون بكل شىء من أجل حريته وكرامته الإنسانية.
لن تجدونى اليوم هنا فى هذا الضريح الموحش، سأكون هناك فى التحرير مع
الجنود المجهولين الأحياء، سأشاركهم فى مخاوفهم من سرقة النصر الذى صنعوه
بصدورهم العارية، سأعتذر لهم عن كل لحظة عصيبة دامية وقفنا فيها متفرجين
عليهم دون أن نمد لهم يد العون، سأبكى كثيرا فى أحضانهم وأنا أتذكر الفرص
التى ضاعت لكى نعيد إلى بلادنا مجدها، سأوارى وجهى من الخجل وأنا أسمعهم
يسألوننى كيف صمتنا طويلا على اختزال حروبنا العظيمة فى أشخاص يبيعون
الوطن أمامنا، بل ويستخدمون دماءنا لكى تكون ذريعة لتوريث أبنائهم، سأطلب
منهم العفو والسماح لأننا لم نقف لنصرخ فى وجه الفساد والظلم والقهر، بل
شاركنا فى ترسيخه بالصمت والفرجة والولاء، سأقول لهم إننا لن نسمح
لعنادنا وقصر نظرنا أن يضيع مكاسب النصر الذى بدؤوا فى تحقيقه، سأحلف لهم
أن كل جندى مصرى يعرف كم هو غال ومقدس ذلك الدم الذى يسيل من أجل الوطن،
سأبشرهم أنه، طال الوقت أم قصر، سيكتب الله لمصر نصرا مكتملا عصيا على
السرقة، سأكتب أنا وهم هذه الرسالة التى سنختمها بتذكيركم بخير هذه
البلاد وشعبها عليكم وكيف أنها تستحق منكم أن تسلموها لأهلها ثانية بعد
أن سلمت نفسها لأسلافكم قبل ستين عاما، فانتصروا وانكسروا ووعدوا وأخلفوا
واستبدوا وفسدوا وحاولوا إصلاح ما أفسدوه واحتكروا الحديث باسم الشعب
وكسروا إرادته حتى ظنت الأمم أنه صار نسيا منسيا، وها هو ذا قد انبعث من
جديد يرفض أنصاف الحلول وأشباه الأحلام وأن يتولى أحد بدلا منه تقرير
مصيره، حتى أنتم.
لن أعود إلى ضريحى ثانية، سأبقى هنا مع أبنائى الغاضبين المحبطين
المرهقين المكدودين الآملين الحالمين، سأتركهم ينتهون من هتافهم الغاضب
«يسقط يسقط حكم العسكر»، لأهتف بعلو صوتى الحزين على كل ما جرى ويجرى
«الجيش والشعب إيد واحدة»، وفى أيديكم أنتم وحدكم يتوقف ما إذا كانوا
سيرددون الهتاف من خلفى بنفس الحماس الذى فرحنا به قبل أشهر ثم أضعناه من
بين أيدينا.